11- الاستيطان الفرنجيّ في بيت المقدس
والمناطق المحيطة بها 492-583هـ/
1099-1187م :-
المصدر: د. سعيد عبد الله البيشاوي*-
نقلاً عن مؤسسة فلسطين للثقافة
ملخص
يعالج هذا البحث موضوع الاستيطان الفرنجي
في بيت المقدس ومحيطها، وناقش فيه الباحث
ركائز الاستيطان بشكلٍ عام، وتطرّق لحصار
بيت المقدس، والاستيلاء عليها من قِبَل
الفرنجة، كما أشار إلى المجازر التي
ارتكبها الفرنجة في المدينة المقدسة،
وأبرز الباحث حاجة الفرنجة للعنصر البشري
في عملية الاستيطان. كما أشار إلى
المستوطنات التي أقامها رجال الدين
اللاتين في المناطق الواقعة في محيط بيت
المقدس، وتعرّض لذكر أهم المنشآت
والمؤسسات التي أقامها رجال الدين اللاتين
في المستوطنات، وفضلاً عن ذلك تطرّق إلى
أهم نشاطات المستوطنين وأعمالهم وخاصة في
مجال الزراعة والصناعة. كذلك أوضح الباحث
طبيعة العلاقة بين المستوطنين ورجال الدين
اللاتين في كنيسة القيامة، وفي نهاية
البحث تطرّق الباحث إلى العوامل التي
قوّضت الاستيطان وقضَتْ عليه.
1- عناصر الاستيطان:
تعتمد العملية الاستيطانية على مجموعة من
الركائز, التي تُسهِم إسهاماً كبيراً في
إنجاحها، وتجعلها حقيقة واقعة على الأرض،
وتتمثّل هذه الركائز في مجموعة من القوى
هي: العسكرية، والاقتصادية، والمالية،
وتوافر السكان والأرض التي سيستقر عليها
المستوطنون، فضلاً عن طرد أصحاب الأرض
الأصليين من بلادهم. وليس من شك في أن هذه
الركائز جميعها تحتاج إلى الدعم والمساندة
من قوى دولية تؤيد الاستيطان وتمنحه غطاءً
سياسياً قوياً.
وبطبيعة الأمر تعتبر القوة العسكرية ركناً
أساسياً في العملية الاستيطانية، فهي تسهم
في بسط السيطرة على الأرض، وطرد السكان
الأصليين، وإقامة المستوطنات وحماية
المستوطنين، ودونها لا يمكن أنْ تتوافر
دعائم الاستيطان الأخرى، وإنْ توافرت فهي
معرّضة للزوال، إذا لم تُتَح لها فرصة
الحماية.
ولعلّ هذا يعني أنّ المستعمرَ إذا تمكّن
من امتلاك الأرض، وطرد سكانها منها، فإنّه
يصبح من السهل عليه استقطاب عناصره
البشرية من أجل الاستيطان في البلاد التي
خضعت لسيطرته. وكان المستعمر يلجأ إلى
كافة الأساليب والوسائل التي تشجع مواطنيه
على القدوم إلى الأراضي المحتلة، وكانت
الإغراءات المادية والامتيازات من أهمّ
الحوافز التي تدفع المستوطنين لهجر بلادهم
الأصلية، والقدوم إلى البلاد الخاضعة
لسيطرتهم.
وتسهم القوة الاقتصادية والمالية في
العملية الاستيطانية من خلال دفع نفقات
إقامة المستوطنات، ودفع أجور نقل
المستوطنين، والإنفاق على المشاريع، ودعم
القوة العسكرية من خلال دفع رواتب الجند
وتجهيزاتهم العسكرية.
2- حصار الفرنجة لبيت المقدس والسيطرة
عليها:
اعتمد الفرنجة الصليبيون على القوة
العسكرية في السيطرة على المدن
الفلسطينية، وقد حصل هؤلاء على الدعم
الاقتصادي من البابوية والجاليات التجارية
الايطالية، التي وافقت على نقل الجنود
الفرنجة إلى الأراضي المقدسة؛ نظير الحصول
على امتيازات مقابل إسهامهم في نقل الجند
أو الاشتراك بمحاصرة المدن الساحلية.
ومهما يكنْ من أمر، فقد وصل الفرنجة إلى
بيت المقدس في يوم الثلاثاء الموافق
السابع من شهر حزيران (يونيه) عام
1099م/الخامس عشر من رجب سنة 492هـ،
وشرعوا بحصار بيت المقدس التي كان سكانها
على أهبة الاستعداد للدفاع عنها بكل قوة
وشجاعة، وبعد حصارٍ استمر شهراً ونصف
الشهر, تمكّن الفرنجة الصليبيون من
الاستيلاء على المدينة في يوم الجمعة
الموافق الخامس عشر من شهر يوليه (تموز)
عام 1099م/ الثالث والعشرين من شعبان عام
492هـ(1)، وقد اقترفوا مذبحة رهيبة مروعة
ذهب ضحيتها سكان المدينة المقدسة، ومن حضر
للدفاع عنها من المناطق المجاورة(2)،
وأشار ابن الأثير (ت 630هـ/1232م) إلى ذلك
بقوله: "وركب الناس السيف، ولبث الفرنج في
البلدة أسبوعاً يقتلون فيه المسلمين"(3)،
ولم يراعِ الفرنجة الصليبيون حرمة الأماكن
المقدسة، إذ قتلوا ما يزيد على سبعين
ألفاً من المسلمين في المسجد الأقصى، كان
من بينهم عدد من الأئمة والعلماء والزهاد
والعُبّاد ممن جاور في ذلك الموضع الشريف،
وغنموا ما لا يقع عليه الإحصاء(4)، وقد
افتخر المؤرخ الصليبي المعاصر رايموند
داجيل (5) Raymound d’Aguils بالأعمال
الإجرامية الحاقدة التي نفّذها بنو جلدته
ضدّ سكان بيت المقدس بقوله: "إنهم
(الفرنجة) داسوا بالخيول جثث المسلمين
المكدسة في الحرم الشريف حيث كانت الدماء
تصل (حتى لجام الخيل)" (6). وفي الموضوع
نفسه يقول المؤرخ الفرنجي المعاصر فوشيه
الشارتري (7) Fulcher of Chartres: "لو
أنّك كنت موجوداً لغاصت قدماك حتى العقبين
في دماء المذبوحين، ترى ماذا أقـول؟ إننا
لـم نترك أحداً منهم على قيد الحياة، ولم
ينجُ حتى النساء والأطفال"(8). ويشير
المؤرخ الفرنجي وليم الصوري (9) William
of Tyre إلى أنّ الفرنجة الصليبيين "راحوا
يذرعون شوارع المدينة مشرعين سيوفهم
فاتكين بكل ما يصادفونه من المسلمين، لا
يراعون في ذلك عمراً ولا وضعاً"(10). ولم
يكتفِ الفرنجة الصليبيون بذلك بل إنهم
قاموا بشقّ بطون الذين ذبحوهم، لكي
يستخرجوا من بطونهم العملات الذهبية التي
كان المسلمون قد ابتلعوها وهم أحياء"(11).
يتّضح مما سبق أنّ المؤرخين المسلمين
والفرنجة اتفقوا على أنّ الجيش الفرنجي
الصليبي ارتكب مذبحة رهيبة مروعة ضدّ سكان
بيت المقدس، لكنهم اختلفوا في عدد القتلى
المسلمين، فرواية المؤرخين المسلمين تشير
إلى أنّ العدد وصل إلى ما يزيد على سبعين
ألفاً في المسجد الأقصى، بينما يذكر
المؤرخون الفرنجة وفي مقدمتهم فوشيه
الشارتري ووليم الصوري أنّ عدد القتلى في
ساحة المسجد الأقصى بلغ عشرة آلاف
قتيل(12)، ويضيف وليم الصوري إلى هذا
العدد "القتلى الذين تناثرت جثثهم في كل
شوارع المدينة وميادينها لم يكونوا أقل
عدداً مما ذكرناهم"(13). ونعتقد أنّ
الرواية الفرنجية الصليبية أقرب للصحة من
خلال النقاط التالية: أنّ مساحة المدينة
كانت حوالي كيلو متراً مربعاً، وكان
يقطنها في منتصف القرن الحادي عشر
الميلادي/ منتصف القرن الخامس الهجري
حوالي عشرين ألف نسمة حسب ما ذكره الرحالة
الفارسي ناصر خسرو(14). ولكن هذا العدد
تراجع بعد ذلك بسبب الحروب الكثيرة التي
عانت منها المدينة، فضلاً عن عدم
الاستقرار الذي شهدته خلال الربع الأخير
من القرن الحادي عشر الميلادي(15)؛ بسبب
الحصار الذي تعرّضت له أكثر من مرة سواء
من الدولة السلجوقية أم الفاطمية، فعلى
سبيل المثال دام الحصار الذي فرضته القوات
الفاطمية على بيت المقدس عام 1097م/489هـ
نحو أربعين يوماً، ولم تستسلمْ القوات
السلجوقية التي كانت داخل بيت المقدس إلا
بعد أنْ ضربت المدينة بأكثر من أربعين
منجنيقاً دمّرت جزءاً من سورها(16).
* التدابير التي اتخذها الفرنجة لتحويل
بيت المقدس إلى مستوطنة لاتينية:
ومهما يكنْ من أمر، فقد أسهمت القوة
العسكرية الفرنجية الصليبية في قتل جميع
سكان بيت المقدس، فضلاً عن السيطرة
الكاملة على المدينة المقدسة، ولعل ذلك
فتح الباب على مصراعيه أمام المستوطنين
الفرنجة للاستقرار والتملك في مدينة بيت
المقدس وفي ذلك يقول المؤرخ فوشيه
الشارتري: "وبعد هذه المذبحة الكبيرة
دخلوا (الفرنجة) بيوت السكان، واستولوا
على كلّ ما وجدوه بها، وتم هذا بطريقةٍ
جعلت كل من يسبق إلى الدخول، فقيراً كان
أم غنياً، يستولي على البيت ولا يجد من
ينازعه من الفرنج الآخرين، وكان له أنْ
يحتل المنزل، أو القصر، ويمتلكه بكل ما
فيه، كما لو كان ملكية خاصة له، وهكذا
اتفقوا جميعاً على هذا النمط من حقوق
الملكية، وبهذه الطريقة صار كثيرون من
الفقراء أغنياء(17).
وثمة سؤال يطرح نفسه فيما إذا كان عدد
الفرنجة الذين استقروا في بيت المقدس
كافياً لملء كافة أحيائها ومنازلها
وشوارعها؟ يبدو من سير الأحداث، وما ذكره
المؤرخون الفرنجة المعاصرون أنّ العدد لم
يكنْ كافياً، فالمؤرخ الفرنجي وليم الصوري
يقول: "وكان سكان قطرنا قليلي العدد، قلة
ملحوظة، ويعيشون في فقر مدقع، حيث إنهم
كانوا أقلّ من أن يشغلوا شارعاً من
شوارعها"(18). وبطبيعة الأمر فإنّ هذا
العدد القليل من الفرنجة لم يكنْ كافياً
لحراسة مداخل المدينة والدفاع عن أسوارها
وأبراجها ضدّ أية غارة إسلامية تباغتها
على غير توقع منها"(19).
وليس من شكٍّ في أنّ عملية الاستيطان
الفرنجي الصليبي في بيت المقدس قد واجهت
منذ البداية مجموعة من المصاعب والمشاكل
التي كانت تهدّد العملية الاستيطانية
جميعها. وتعتبر مشكلة نقص العنصر البشري
الفرنجي من أكثر التحديات التي واجهت
القادة الفرنجة في الأراضي المقدسة؛ لأنّ
الاستيطان كان بحاجة إلى الأمن والدفاع،
وهذا لم يكنْ ممكناً في ظلّ النقص الحاد
في عدد السكان الفرنجة الذين استوطنوا في
بيت المقدس وغيرها من المناطق الأخرى.
وقد أولى الملك بلدوين الأول(20) مشكلة
النقص الحاد في عدد سكان بيت المقدس
الفرنجة جُلّ اهتمامه، وأخذ يفكّر في
التغلّب عليها بكافة الطرق والأساليب،
وتشاور في هذا الصدد مع عدد من الأمراء
والقادة في مملكته، ويبدو أنّهم توصّلوا
إلى رأيٍ يقضي بالسماح للمسيحيّين
الشرقيين بالعودة إلى بيوتهم في المدينة
بعد استيلاء الفرنجة عليها؛ بسبب خلوّها
من السكان، إلا أنّ عودتهم لم تسهِمْ في
حل المشكلة، إذْ استمرت المدينة تعاني من
نقص حاد في عدد السكان. ولما كان هذا
الوضع يقلق الملك بلدوين الأول، الذي أخذ
يبحث في كافة الطرق والأساليب التي تمكّنه
من جلب سكان مسيحيين للإقامة في المدينة
المقدسة، واستمر في بحثه حتى علم أنّ
"هناك كثيراً من المسيحيين الشرقيين
يعيشون في القرى الواقعة فيما وراء
الأردن"(21). وقد أرسل الملك بلدوين في
طلبهم واعداً إياهم بحياة أحسن من حياتهم
التي يعيشونها الآن، ثم ما لبثت أنْ طابت
نفسه بمنْ توافد عليه منهم، وقد جاؤوه
بحريمهم وأولادهم ومواشيهم وقطعانهم وكلّ
ما ملكته أيديهم(22)". وكان قدوم
المسيحيين الشرقيين من منطقة ما وراء
الأردن –من نصارى الكرك والشوبك– للإقامة
في بيت المقدس؛ بسبب الإغراءات التي وعدهم
بها الملك الفرنجي، وعند حضورهم "منحهم
الملك نواحي المدينة التي كانت أكثر من
غيرها في أمسّ الحاجة لمساعدتهم, فعمرت
الدور بهم"(23). وقد أدرك المؤرخ الفرنجي
فوشيه الشارتري أهمية العنصر البشري في
عملية الاستيطان، واعتبره ركيزةً رئيسةً
لعمليات التوطين في الأراضي المقدسة، وقد
عبّر عن ذلك بقوله: "وفي بداية حكم بلدوين
كان يمتلك مدناً قليلة ويحكم شعباً
صغيراً…(24) وكرّر القول نفسه في مكان آخر
من كتابه، "ولهذا السبب بقيت أرض بيت
المقدس فقيرة في السكان، ولم يكنْ هناك من
الناس ما يكفي للدفاع عنها ضد المسلمين،
إذا فكروا في الهجوم علينا"(25).
ومهما يكن من أمرٍ، فقد أدى استيلاء
الفرنجة الصليبيين على بيت المقدس إلى
تغيّر البنى الاجتماعية والإدارية في
المدينة، حيث حلّتْ محلها بنى جديدة فرضها
الواقع الجديد للمدينة المقدسة. فعلى سبيل
المثال كانت الجماعات البشرية التي
استوطنت في بيت المقدس تنتمي لأصول
اجتماعية وثقافية مختلفة؛ الأمر الذي نتج
عنه ظهور بُنى جديدة تتناسب وحياة
الجماعات البشرية الجديدة، التي ترجع في
معظمها إلى أصول فلاحيّة أوروبية، ولذلك
فقد كانوا يفتقرون للمؤهلات الفنية في
المهن والحرف التي كانت تشكّل الأساس في
اقتصاد المدينة(26).
ويبدو أنّ استقرار الفلاحين الغربيين في
بيت المقدس بصورة دائمة قد دفعهم إلى
التكيّف مع أنماط الحياة الاقتصادية في
المدينة ليتمكّنوا من كسب معيشتهم، حيث
بدأت تظهر طبقة جديدة من السكان من غير
النبلاء والأشراف والفرسان أصحاب
الإقطاعات، وهي الطبقة الوسطى التي أصبح
لها دور كبير في حياة مدينة بيت المقدس
الاقتصادية، وغير ذلك من الأعمال
كالمشاركة في الدفاع عنها في حال تعرّضها
لهجوم خارجي(27).
يتّضح مما سبق أنّ فكرة الاستيطان في بيت
المقدس، وكافة الأراضي المقدسة قد برزت
إلى حيّز التنفيذ بعد استيلاء الفرنجة
الصليبيين على بعض المدن والقرى
الفلسطينية بفترة وجيزة، وقد جرى تنفيذها
على مختلف المستويات سواءً من قِبَل ملوك
بيت المقدس أم الأمراء الإقطاعيين أم رجال
الدين اللاتين أم الجاليات التجارية
الايطالية، أم جماعات الفرسان الرهبان
(الاستبارية والداوية والتيوتون)(28)
وفضلاً عن ذلك فقد بدا واضحاً أنّ غالبية
المستوطنين الأوروبيين في المدينة المقدسة
كانوا من طبقة الفلاحين.
وتجدر الإشارة إلى أنّ النظام الإقطاعي
الأوروبي الذي نقله الفرنجة الصليبيون إلى
الأراضي المقدسة، قد أسهم إسهاماً كبيراً
في زيادة الرقعة الاستيطانية حول بيت
المقدس وغيرها من المدن الفلسطينية، ويتضح
ذلك من خلال المنحة التي قدّمها الأمير
جودفري البويوني Godfrey of Bouillon (29)
لرجال الدين اللاتين في كنيسة القيامة،
إذْ قام بمنحهم أكثر من عشرين قرية في
حدود بيت المقدس(30). وقد استغلّ رجال
الدين اللاتين هذه المنحة بإنشاء مجموعة
من المستوطنات حول مدينة بيت المقدس.
* المستوطنات الفرنجية الصليبية حول بيت
المقدس:
أ- مستوطنة البيرة:
شرع رجال الدين اللاتين في كنيسة القيامة
بتأسيس مجموعة من المستوطنات الدينية حول
مدينة بيت المقدس، مستغلين المنحة التي
قدّمها الأمير جودفري البويوني خير
استغلال. وكانت قرية البيرة(31) الواقعة
شمال بيت المقدس الهدف الأول الذي اختاروه
لتأسيس أولى مستوطناتهم مكانها، على الرغم
من أنّ القرية لم تكنْ مهجورة من سكانها
الأصليين، وبطبيعة الحال عمل رجال الدين
اللاتين بمساعدة الجند الفرنجة على تهجير
من بقِيَ من سكان القرية الأصليين، إلى
مناطق أخرى، قبل الشروع بتأسيس المستوطنة،
ومن المرجّح أنّ عملية إنشائها قد تمّت
بالتدريج؛ لأنّ رجال الدين اللاتين في
كنيسة القيامة قاموا بتوطين مجموعة من
الأوروبيين الأحرار في البيرة، وزوّدوهم
بقطع من الأراضي حتى يقوموا بزراعتها،
مقابل دفع ضريبة العُشُر لرجال الدين،
واقتسام المحاصيل التي تنتجها أراضي
البيرة معهم. ومما تجدر الإشارة إليه أنّ
رجال الدين اللاتين اهتموا اهتماماً
كبيراً بمستوطنة البيرة، والدليل على ذلك
أنهم أحاطوها بالأسوار، وشيّدوا قلعة
لحمايتها من الأخطار الخارجية التي قد
تتعرّض لها. وربما جرى تحصينها وتقويتها
لتكون خط الدفاع الأول عن بيت القدس ضدّ
أيّ هجومٍ قد تتعرّض له من منطقة شمال
فلسطين. وأطلق الفرنجة الصليبيون على
مستوطنة البيرة اسم Magna Mahumeria بمعنى
منطقة التعبّد الكبرى أو المنبر الأكبر أو
المستوطنة الدينية الكبرى. ويبدو أنّ
اكتمال مستوطنة البيرة قد تم بعد خمسة عشر
عاماً من الشروع بتأسيسها وعلى وجه
التحديد عام 1115م/509هـ وهذا يعني أنّ
رجال الدين اللاتين قاموا بإنشاء كلّ ما
تحتاج إليه المستوطنة من مؤسسات وكنائس
وأسوار وأبراج وقلاع. وقد أشارت إحدى
الوثائق إلى قيام روجر أسقف الرملة بمنح
دير القديسة مريم في وادي النار قطعة أرض
مساحتها أربع كاريوكات تقع أمام قلعة
البيرة(32). وكانت سياسة رجال الدين
اللاتين الاستيطانية هي التي جعلت مستوطنة
البيرة مستمرة في التوسّع من حيث الحجم
والأهمية طوال القرن الثاني عشر
الميلادي(33).
وقد أشارت الوثائق إلى أنّ مستوطنة البيرة
أحيطت بالأسوار من أجل حمايتها من الأخطار
الخارجية(34)، التي قد تتعرّض لها من
قِبَل المسلمين، الذين واصلوا جهودهم من
أجل استرداد بلادهم، وطرد الغاصبين منها.
كذلك قام رجال الدين اللاتين في كنيسة
القيامة بإنشاء حصن في مستوطنة البيرة
عُرِف باسم Castrum Mahumeria. وقد ذكر في
الوثائق الفرنجية الصليبية ثلاث مرات,
الأولى كانت في عام 1115/م509هـ عندما
قدّم روجر أسقف الرملة منزلاً في البيرة
لدير القديسة مريم في وادي يهوشافاط (وادي
النار) وكان هذا المنزل يقع في مواجهة
الحصن (35) ante Castrum. والمرة الثانية
التي ذكر فيها الحصن كانت في سنة
1128م/522هـ(36)، أما المرة الثالثة فكانت
في سنة 1146م/541هـ(37).
وتجدر الإشارة إلى أنّ المؤرخين الفرنجة
المعاصرين أشاروا إلى وجود برج Turis في
البيرة، ومن المرجّح أنّ الحصن والبرج
كانا بناية واحدة، مع اختلاف في التعبير
فيما ذكرته الوثائق الصليبية، وما ذكره
المؤرخون الفرنجة المعاصرون. وعلى الرغم
من الأسوار والتحصينات التي تمّ إنشاؤها
حول مستوطنة البيرة، إلا أنها لم تستطعْ
الصمود أمام الهجمات الإسلامية، ففي سنة
1124م/518هـ قامت حامية عسقلان الإسلامية
بمهاجمة مستوطنة البيرة، واستولت عليها،
وأسَرَتْ الكثير من سكانها، بينما احتمى
قسمٌ من المستوطنين في البرج الذي يبدو
أنّه لم يتعرّض للهجوم، وبذلك نجا من
احتمى به من الموت أو الأَسْر(38).
وأسّس رجال الدين اللاتين في مستوطنة
البيرة كنيسةً أقيمت تكريماً للقديسة
مريم، وقد ورد ذكرها مرتين، المرة الأولى
كانت في سنة 1128م/522هـ والمرة الثانية
كانت في سنة 1146م/541هـ(39). وقد ذكر أحد
الحجّاج الغربيين المعاصرين كنيسة البيرة
عندما أشار إلى وجود صليب عظيم الحجم،
منحوت على الحجر، يرتفع فوق سبع درجات،
كان الحجاج يرتقونها ويشاهدون من فوق
كنيسة البيرة، برج داود في بيت
المقدس(40).
وقد اهتمّ رجال الدين بمصالح الفرنجة
الصليبيين الذين استقرّوا في مستوطنة
البيرة، فأسّسوا محكمةً عُرِفت باسم محكمة
كنيسة القيامة Curie Sancti Sepulcre
Mahumeria، وكانت مهمة هذه المحكمة بحث
ومعالجة القضايا والمشاكل المتعلقة بأفراد
الطبقة البرجوازية، لدرجة أنّها عرفت باسم
المحكمة البرجوازية Courtde Burgesses.
وكانت هذه المحكمة تعقد تحت رئاسة المسؤول
عن تدبير شؤون كنيسة القيامة في المستوطنة
(41) Steward dispensator، الذي كان يقيم
في المركز الإداري أو البيت الرئيس
المعروف بالكوريا (42) Curia.
وتشير الأدلة الأثرية التي تم العثور
عليها إلى أنّ رجال الدين أمروا بإقامة
بركتين لتخزين المياه في مستوطنة البيرة،
لأنّه تم العثور على البركتين في السهل
الواقع جنوب المستوطنة(43). وفضلاً عن
المنشآت سالفة الذكر كان هناك العديد من
المنازل والمتاجر، التي تمتاز بشكلها
الاسطواني المقنطر، وكان كل منزل من منازل
مستوطنة البيرة يشتمل على دورين، الدور
العلوي ويشتمل على غرفتين تستعملان كمأوى
لأصحاب المنزل، أما الدور السفلي فكان
يستخدم للتخزين، وتصنيع المنتوجات
الزراعية(44).
أمّا فيما يتعلّق بفئات السكان التي
استقرت في مستوطنة البيرة، فكان معظمهم من
الأوروبيين الذين شاركوا في الحملات
الفرنجية الصليبية. وفي سنة 1155م/550هـ
تم إحصاء نحو تسعين عائلة أوروبية تقطن في
مستوطنة البيرة، أي ما يقارب ثلاثمائة
وخمسين شخصاً، وكان عدد المستوطنين قابلاً
للزيادة، ففي الفترة الواقعة بين سنتي
1155-1187م/550-583هـ استقرت خمسون عائلة
جديدة في البيرة(45) وبذلك اتسعت
المستوطنة وحازت على شهرة معتبرة(46).
وكان هؤلاء المستوطنون يعملون في جميع
المهن وخاصة الحدادة، والنجارة، وصناعة
الأحذية، والبناء، وكان منهم الصاغة،
والمزارعون الذين كانوا يشرفون على
الحدائق والبساتين(47). وقد قام رجال
الدين اللاتين بتنظيم المجتمع الزراعي في
البيرة وغيرها من المستوطنات التي أقاموها
في فلسطين.
وأسّس رجال الدين اللاتين في كنيسة
القيامة مجموعة مستوطنات أخرى تحيط بمدينة
القدس نذكر منها القبيبة(48) وبيت
سوريك(49)، وقد أشارت بعض الوثائق المؤرخة
سنة 1169م/564هـ، إلى أنّ هذه المستوطنات
شيدت بوساطة الكنيسة، وعُمّرت من قِبَل
سكان لاتين، وكانت تخضع لسلطان كنيسة
القيامة القضائي (50).
"ut Magnam Mahomariam et Parvam et Beth
Suri, et alias omnes quas aedifcaturi
estis, ubi Latini habitabunt cum
ecclesiis et omni integritate justicie
et juris Parrachialis".
ب- مستوطنة القبيبة:
وشيّد رجال الدين اللاتين مستوطنة القبيبة
على الطريق الرئيس الواصل من السهل
الساحلي إلى بيت المقدس، ولهذا فالمستوطنة
واقعة على طريق الحجاج، وقد أسّس فيها
كنيسة أبرشية التي تماثل تلك التي تم
تأسيسها في البيرة، إذ أنّ أجزاءها
الثلاثة كانت نصف دائرية، فضلاً عن صحن
الكنيسة والجناحين(51).
ويبدو أنّ مستوطنة القبيبة اشتملت على
مركز إداري Curia، إذ تم العثور على مبنى
كبير، مزوّد بمخزن للحبوب، وهذا يجعلنا
نرجّح أنّه كان مركزاً لإقامة المسؤول عن
شؤون رجال الدين اللاتين في المستوطنة،
والذي كان يطلق عليه اسم dispensator
باللغة اللاتينية. وربما قام رجال الدين
بإنشاء محكمة تعقد تحت رئاسته، أسوة بتلك
التي تم تشييدها في البيرة(52).
وكانت منازل مستوطنة القبيبة وبيوتها
متشابهة في الشكل والحجم والمرافق
الداخلية، وتمّ الكشف حديثاً عن أربعين
منزلاً، تقع جميعها على جانبي الطريق
العام، الذي كان الشارع الرئيس في القرية
منذ العصر الفرنجي، ويتضح من الشواهد
الأثرية أنّ جميع المنازل التي تم
اكتشافها، كانت قد شيدت كجزء من مشروع
متطور، يعكس مدى اهتمام الفرنجة
الصليبيين، بعمليات البناء والمشاريع،
وذلك من خلال التخطيط السليم لمشاريع
الاستيطان في المناطق التي حازوها من ملك
بيت المقدس(53).
وقد استوطن مجموعة من اللاتين في مستوطنة
القبيبة، وربما جاؤوا من المناطق نفسها
التي حضر منها سكان مستوطنة البيرة(54)،
ولعلهم كانوا يعملون في حرف مختلفة مثل:
الحدادة، والتجارة، وصناعة الأحذية،
والبناء، فضلاً عن العمل في مجال الزراعة
والعناية بالحدائق والبساتين، وهذا لا
يمنع من وجود بعض السكان من المسيحيين
الشرقيين والمسلمين الذين كانوا يقيمون في
المنطقة قبيل إنشاء مستوطنة القبيبة.
جـ- مستوطنة راماتيس:
وشكلت راماتيس (55) Ramathes مركز
استيطانياً منظماً، أقامه رجال الدين
اللاتين في كنيسة القيامة(56)، وكان معظم
سكانها من المسيحيين السريان، وقد أمكن
إحصاء أسماء ثمانية وعشرين شخصاً كانوا
يقيمون في الموقع قبل إنشاء المستوطنة
الجديدة، وهذا يشير إلى أنّ الاستيطان لم
يقتصرْ على المناطق غير الآهلة بالسكان،
إذ أسست هذه المستوطنة في منطقة
مأهولة(57)، ولعل بعض المستوطنين اللاتين
قاموا بالاستقرار في راماتيس، على الرغم
من أنّ الوثائق لم تُشِرْ إلى ذلك صراحة،
بل أشارت إلى امتلاك الفرنجة الصليبيين
كروم العنب في القرية(58). ويبدو أنّ
اقتصادها كان يعتمد على زراعة الحبوب،
والخضروات، وأشجار الزيتون التي كانت
دائماً من أهم عناصر الزراعة
الفلسطينية(59).
وقد اهتم الفرنجة الصليبيون بإنشاء
المنازل، والمخابز، والطواحين في
المستوطنات التي أسسوها في الأراضي
المقدسة، وهذا يعني أنهم حرصوا على توفير
جميع متطلبات الحياة للمستوطنين؛ بما يخدم
مصالح الطرفين، وكانت عمليات جذب السكان
اللاتين للإقامة في المستوطنات الخاضعة
لكنيسة القيامة نشطة، وذلك عن طريق تقديم
الكثير من التسهيلات، والسماح لهم بإدارة
أراضيهم بأنفسهم، وإقامة المنازل المعفاة
من دفع الإيجارات، على أنْ يقوم
المستوطنون بدفع جزءٍ من المحصول الذي
تنتجه الأراضي التي حصلوا عليها، ويتم
تحديد هذا الجزء طِبْقاً لاتفاقٍ يجري
توقيعه بين الطرفين، ويدخل تحت بند حق
كنيسة القيامة أو السيد الإقطاعي في قسم
من المحصول الذي تنتجه الأرض (60)
Champart. وتلقي إحدى الوثائق الفرنجية
الصليبية المؤرخة سنة 1160م/555هـ الضوء
على الطرق التي كان يتبعها رجال الدين
اللاتين في كنيسة القيامة من أجل تشجيع
أهل الغرب الأوروبي على الإقامة في
المستوطنات التابعة لهم، فقد أشارت
الوثيقة إلى قيام نيقولا رئيس كنيسة
القيامة بمنح بعض الكاريوكات، وكروم العنب
الواقعة في مستوطنة راماتيس الجديدة إلى
ثلاثة من المستوطنين اللاتين، فضلاً عن
منحهم قطعاً من الأراضي لإقامة منازلهم
عليها، وإلى جانب ذلك أعطاهم كروم عنب،
وجزءاً كبيراً من أشجار الكرمة التي سبق
أنْ أشرف على زراعتها بطرس رئيس كنيسة
القيامة السابق في مستوطنة البيرة. وإلى
جانب هذه المِنح جميعها، سمح لهم باستخدام
المخابز والطواحين وجميع الأشياء الأخرى
في مستوطنة البيرة، ولكنْ ضمن شروط خاصة
تمّ الاتفاق عليها بين الطرفين. ويلاحظ
أنّ جميع هذه المنح والتسهيلات الخاصة من
أجل استقطاب اللاتين وحثّهم على الاستقرار
في المستوطنات(61).
يتضح من خلال المعلومات التي أوردتها
الوثيقة سالفة الذكر عدة نقاط أهمها:
الاهتمام بزراعة أشجار الكرمة والزيتون في
الأراضي التابعة للمستوطنات، وقد بدا هذا
الأمر واضحاً من خلال قيام رئيس كنيسة
القيامة بالإشراف على زراعة أشجار الكرمة
وأشجار الزيتون في مستوطنة البيرة، وربما
يرجع ذلك لما تدرّه هذه الأشجار من أرباح
على الفرنجة الصليبيين، خاصةً أنّ ثمار
العنب تعتبر المادة الخام لصناعة النبيذ
والدبس والخل، والملبن والزبيب(62)، كذلك
فإنّ ثمار الزيتون كانت المادة الخام
لعملية استخراج زيت الزيتون الذي تقوم
عليه صناعة الصابون(63).
ومن النقاط البارزة التي أوردتها الوثيقة
ما يتعلّق، بتنظيم أراضي مستوطنة راماتيس
الجديدة، وتقسيمها إلى كاريوكات، وزراعة
قسم منها بأشجار الكرمة، والسبل التي
اتّبعها رجال الدين اللاتين من أجل
استقطاب المواطنين الأوروبيين، وحثهم على
الإقامة في المستوطنات التي تمّ تأسيسها
في الأراضي المقدسة، وذلك عن طريق منحهم
الأراضي الزراعية، والسماح لهم بإقامة
منازلهم على جزء منها، هذا إلى جانب
السماح لهم باستعمال المخابز والطواحين
التي تعود ملكيتها لكنيسة القيامة، وذلك
ضمن شروط خاصة يتم الاتفاق عليها بين
الطرفين.
وقد أوضحت الوثيقة أيضاً أنّ المستوطنين
الأوروبيين كانوا يقومون بإنشاء منازلهم
بأنفسهم، ولكن بعد الحصول على إذنٍ مسبق
من المشرفين على المستوطنات، وهذا يعني
أنّ جزءاً من المنشآت في المستوطنات التي
أقامها رجال الدين في محيط بيت المقدس كان
يقع على عاتق المستوطنين، والجزء الآخر
كان يقع على عاتق الذين يشرفون على بناء
المستوطنات. ويبدو أنّ المنازل التي أسسها
المستوطنون، كانت ملكاً وراثياً لهم،
ولهذا فقد كان من حقّهم تحويل ملكية
منازلهم وأراضيهم إلى مواطنين آخرين(64).
* طبيعة العلاقة بين المستوطنين ورجال
الدين اللاتين:
أمّا عن طبيعة العلاقة بين سكان
المستوطنات اللاتينية المحيطة ببيت المقدس
ورجال الدين اللاتين في كنيسة القيامة،
فكانت علاقة واضحة تحكمها شروط واتفاقات
تعتمد في معظمها على العرف والعادة.
وقد زوّدتنا الوثائق الفرنجية الصليبية
بمعلومات وافرة عن طبيعة هذه العلاقات،
ففي إحدى الوثائق إشارة واضحة إلى
التسهيلات التي قدمها رجال الدين اللاتين
للمستوطنين؛ من أجل تشجيعهم على الإقامة
والاستقرار في المستوطنات الكنسية، فعلى
سبيل المثال: قاموا بمنح ثلاثة من السكان
اللاتين كروم عنب وأشجار زيتون مزروعة
حديثاً في مستوطنة راماتيس، كما سمحوا لهم
بإقامة المنازل على جزءٍ من الأراضي
الممنوحة لهم، دون تحصيل أية إيجارات
عنها، وفضلاً عن ذلك قاموا بمنحهم قطعاً
من الأراضي كاريوكات Carrucates، وكرم عنب
كبير المساحة في مستوطنة البيرة، وكانت
جميع هذه المنح وراثية ومن حق المستوطنين
نقل ملكيتها. وقد فرض رجال الدين على
المستوطنين دفع ضرائب على المحاصيل التي
تنتجها الأراضي الممنوحة لهم، فعلى سبيل
المثال كان يدفع ربع محصول القمح
والخضروات، وخمس المحصول من أشجار الكرمة،
وأشجار الزيتون المزروعة حديثاً، هذا إلى
جانب ضريبة العشر المقررة على جميع
الأملاك. أما بقية الأراضي التي حصل عليها
المستوطنون الثلاثة في مستوطنة البيرة،
فقد فرض عليهم أنْ يدفعوا عنها العشر،
ونصف الإنتاج الذي تدره الأراضي
الممنوحة(65).
يتّضح مما سبق أنّ الضرائب التي فرضت على
المستوطنين اللاتين في مستوطنة البيرة،
والمناطق المحيطة بها لم تكنْ متساوية
فعلى سبيل المثال فُرِضَ على قطعتين من
الأرض، تعود ملكيتهما لأحد المستوطنين،
ضريبة العشر وثلث المحصول الذي تنتجه
هاتان القطعتان، دون تحديد نوعية المحاصيل
المزروعة، كذلك تم فرْض ضريبة العشر وثلث
المحصول على قطعتين من الأرض المزروعة
بأشجار الكرمة في وادي القديسة مريم(66)،
وتم فرض ضريبة العشر وربع المحصول الذي
تنتجه قطعة أرض مساحتها ثلاثين يوجيرا
(67) Jugera (ما يعادل ستة أفدنة ونصف)
تقع في قلندية. كذلك فرضت ضريبة العشر
ونصف المحصول على قطعتين من الأرض إحداهما
مزروعة بأشجار الكرمة والثانية لا تزال
بوراً. وكان رجال الدين اللاتين يقومون
بإعفاء بعض المستوطنين من جميع الضرائب
المقررة على المحاصيل باستثناء ضريبة
العشر(68).
ولعل تفاوت نسبة الضرائب التي فرضت على
المستوطنين اللاتين يرجع إلى عدة أمور
منها: خصوبة الأرض وقدرتها الإنتاجية،
فإذا كانت الأرض خصبة، ونسبة المحاصيل
التي تنتجها عالية، فمِنَ المحتمل أنْ يتم
رفع مقدار الضريبة المقررة عليها، ومن
الممكن أيضاً أنْ تخفض نسبة الضرائب
المقررة على المحاصيل، من أجل مساعدة
المزارعين الفقراء، وتشير الوثائق
اللاتينية المعاصرة إلى إعفاء بعض
المزارعين من دفع الضرائب، ما عدا ضريبة
العشر.
وكانت هناك قيود صارمة على المستوطنين في
مستوطنة البيرة وغيرها من المستوطنات، ومن
هذه القيود: عدم السماح لهم ببيع الأراضي
المزروعة بأشجار الكرمة، إلا بعد استشارة
رجال الدين اللاتين في كنيسة القيامة وأخذ
موافقتهم. وإذا أصرّ المستوطنون على بيع
كروم، فرجال الدين اللاتين في كنيسة
القيامة أحق بعملية الشراء(69)، ومع ذلك
فقد قام أحد المستوطنين ببيع أرضه
المزروعة بأشجار الكرمة إلى أحد جيرانه
بمبلغ ست وعشرين بيزنطاً، بعد موافقة رئيس
كنيسة القيامة(70)، مع العلم أنّ رجال
الدين اللاتين كانوا يشترطون الحصول على
نصف ثمن الأراضي المباعة, وعلاوة على ذلك
كانت كنيسة القيامة تضع المراقبين على
المزارعين، الذين يتولون زراعة أشجار
الكرمة في المستوطنات الكنسية، وكان
المراقبون يفرضون الغرامات على المهملين
بشؤون كروم العنب، كما أنهم كانوا يهدّدون
بانتزاع هذه الكروم، ومنحها إلى مستوطنين
آخرين في حال استمرار الإهمال، وعدم
العناية بكروم العنب على الوجه الأكمل،
وكان مسؤول الخزانة في مستوطنة البيرة هو
الذي يقوم بهذه المهمة، يرافقه أربعة أو
خمسة شهود من أجل إثبات قضية الإهمال(71).
ويبدو أنّ كنيسة القيامة قد ألزمت
المستوطنين اللاتين باستخدام المخابز
والطواحين التي تعود ملكيتها لها، مقابل
دفع نسبة معينة من الأرغفة التي تم خبزها
في المخابز، وكمية من الحبوب التي تم
تحويلها إلى دقيق(72)، وقد ذكر أحد
المؤرّخين الحديثين أن رجال الدين اللاتين
طبقوا في مستوطنة البيرة، ما كان سائداً
في مملكة بيت المقدس الفرنجية من عرف
وتقاليد ونظم احتكارية، خاصة فيما يتعلق
باحتكار المخابز ومطاحن الدقيق(73).
ومهما يكن من أمر، فإنّ العلاقة بين
المستوطنين ورجال الدين اللاتين كانت
جيدة، تحكمها بعض القوانين والعادات. وكان
رجال الدين أسخياء فيما بذلوه من منح لهم،
خاصة الأراضي التي حازها المستوطنون والتي
كانت ملكاً خالصاً لهم، يجوز توريثها
لأبنائهم وأقاربهم. وفضلاً عن ذلك كان
المستوطنون يمارسون حقوقهم بحرية وأمان.
وكان رئيس كنيسة القيامة، وبقية رجال
الدين العاملين فيها، يقومون بزيارات
تفقدية للمستوطنات الكنسية، ويتعرفون على
أحوال المستوطنين، ويشرفون على إجراء
المبادلات في الأراضي، كما أنهم كانوا
يشجعون المستوطنين على العمل في كرم واحد
كبير، بدلاً من العمل في كروم صغيرة
مبعثرة هنا وهناك. وهذا يعني أنّ رجال
الدين شجّعوا المستوطنين على العمل
الجماعي، من أجل زيادة إنتاج
المستوطنات(74).
* الفوائد التي جناها الفرنجة الصليبيون
من إقامة المستوطنات حول المدينة المقدسة:
ليس من شكٍّ في أنّ الفرنجة الصليبيين
أفادوا كثيراً من إقامة المستوطنات حول
بيت المقدس، ولعل أهم هذه الفوائد ما
يتعلق بالجانب الاقتصادي, إذ توسع
المستوطنون بزراعة أشجار الكرمة والزيتون
ذات المردود الاقتصادي المرتفع، وبالتالي
أفاد الفرنجة الصليبيون من الضرائب
المفروضة على مثل هذه المحاصيل، على الرغم
من اختلاف قيمة هذه الضرائب من محصول
لآخر، كذلك أفاد الفرنجة من نظام
الاحتكار، إذ أجبر المستوطنون على استخدام
مخابز ومطاحن الدقيق التابعة لكنيسة
القيامة، وهذا يعني إفادتهم من المردود
المالي التي تدره المطاحن والمخابز.
وبطبيعة الأمر، أسهمت المستوطنات في
المجهود الحربي والعسكري، فعلى سبيل
المثال أسهمت مستوطنة البيرة في إعداد
الجنود والفرسان لمحاربة السلطان صلاح
الدين الأيوبي، وقد ذكر المؤرخ الفرنجي
المعاصر وليم الصوري أنّ خمسة وستين شاباً
من مستوطنة البيرة، كانوا يحملون أسلحة
خفيفة، وصلوا إلى مدينة غزة ليلاً؛ من أجل
مشاركة الجيش الفرنجي الصليبي في التصدّي
لقوات صلاح الدين، لكنهم لم يتمكنوا من
المقاومة، وتعرضوا للقتل(75). ولا شك في
أن مقتل هذا العدد الكبير من سكان مستوطنة
البيرة، يعتبر كارثة اجتماعية بالنسبة
للمستوطنين، وربما كان لها تأثير سيئ على
الوضع الاقتصادي في المستوطنة، إذ لابد أن
قسماً من القتلى كان يعمل في مجال
الزراعة، هذا إلى جانب أنهم فقدوا أسلحتهم
وخيولهم في المعركة، وهذا الأمر يتطلب
تجنيد مجموعة أخرى من المستوطنين بكافة
معداتهم القتالية، ما سيؤثر سلباً على
الحياة الاقتصادية في المستوطنة.
ولا بدّ أنّ سكان المستوطنات الأخرى كانوا
يسهمون في المجهود الحربي الذي تحتاجه
مملكة بيت المقدس، وربما تكون إسهامات
المستوطنات حسب حجم المستوطنة وقوتها
الاقتصادية والعسكرية والبشرية. كذلك
نعتقد أن مستوطنة البيرة ومستوطنة القبيبة
كانتا تسهمان في الدفاع عن بيت المقدس؛
كونها مراكز فرنجية صليبية متقدمة، ومحصنة
بأسوار، وقلاع، وأبراج، فضلاً عن وجود
مجموعة من الفرسان والجنود في هاتين
المستوطنين للدفاع عنهما ضد أي هجومٍ
إسلامي مباغت.
* نهاية الاستيطان الفرنجي في بيت المقدس
ومحيطها
بعد أنْ انتصر السلطان صلاح الدين الأيوبي
في حطين عام 583هـ/1187م، وقامت قواته
بفتح المدن الفلسطينية، توجّه بنفسه صوب
بيت المقدس، وعندما وصلها في منتصف رجب
سنة 583هـ/العشرين من أيلول سنة 1187م،
شرع يبحث عن مكانٍ يقاتل الفرنجة منه،
"فلم يجد عليه موضع قتال إلا من جهة
الشمال، نحو باب العمود… فانتقل إلى هذه
الناحية في العشرين من رجب ونزلها"، ونصب
المجانيق من هذا الجانب(76)، وبدأت قواته
بمهاجمة الفرنجة الصليبيين، الأمر الذي
دفعهم إلى التسليم، وطلب الصلح فوراً،
فأجابهم السلطان صلاح الدين إلى ذلك، على
أنْ يدفع كلّ رجلٍ منهم عشرة دنانير
والمرأة خمسة دنانير، والطفل دينارين، ومن
عجز عن الدفع وقع أسيراً بيد المسلمين،
ودخل المسلمون بيت المقدس يوم الجمعة
الموافق السابع والعشرين من رجب سنة
583هـ/الثاني من أكتوبر (تشرين الأول) سنة
1187م، ورفعت الأعلام الإسلامية على أسوار
القدس(77). وفي يوم الجمعة التالية
الموافق الرابع من شعبان سنة 583 هـ
/التاسع من أكتوبر (تشرين الأول) 1187م
صلى المسلمون صلاة الجمعة في بيت المقدس،
وكان معهم صلاح الدين الأيوبي الذي صلى في
قبة الصخرة(78).
أمّا فيما يتعلق بالمستوطنين الأوروبيين
الذين كانوا يعيشون في المستوطنات المحيطة
ببيت المقدس، فقد غادروا هذه الأماكن، عند
سماعهم أخبار انتصار السلطان صلاح الدين
الأيوبي على القوات الفرنجية الصليبية في
حطين وقيامه بفتح المدن الفلسطينية وطرد
الفرنجة منها. ومن المرجّح أنّ قوات صلاح
الدين قامت بتدمير وتخريب جميع أملاك
الفرنجة ومستوطناتهم في فلسطين، وقد أشار
ياقوت الحموي (ت626هـ/1228م) –الذي زار
بيت المقدس بعد طرد الفرنجة الصليبيين
منها- إلى أنّ السلطان صلاح الدين قام
بتدمير مستوطنة البيرة، بعد أنْ استعادها
من الفرنجة(79). ويبدو أنّ التدمير لم
يشملْ معظم المستوطنة، لأنّه تمّ العثور
في البيرة على بعض المنازل والمنشآت التي
ترجِع إلى العصر الفرنجي الصليبي.
وهكذا بدا واضحاً أنّ جميع المستوطنات
اللاتينية التي أقامها الفرنجة الصليبيون
في الأراضي المقدسة، كان مصيرها الزوال،
بفضل العمل الجاد، والوحدة التي حقّقها
السلطان صلاح الدين، والتصميم على استرداد
الأرض والحقوق المغتصبة. كذلك لاحظنا
مغادرة المستوطنين للمستوطنات التي أقاموا
فيها فترة من الزمن، دون إبداء أية
مقاومة، وهذا دليل على عدم ارتباطهم
بالأرض؛ لأنهم عنصر دخيل على المنطقة،
انتهى بانتهاء الأوضاع التي سمحت لهم
بالوجود في الأراضي المقدسة. ولعلّ كلّ
ذلك يشير إلى أنّ الشعب الصامد على أرضه،
سيحقّق النصر ويطرد المعتدي، وأنّ عامل
الزمن، والعمل الدؤوب، والعلم، والوحدة،
والقوة الاقتصادية كفيلة بتحقيق آمال
الشعوب الباحثة عن الحرية والاستقلال.
الخاتمة
توصّلت عبر دراستي لموضوع "الاستيطان
الفرنجي الصليبي في بيت المقدس والقرى
المحيطة بها" إلى مجموعة من النتائج
أهمها:
- اعتماد الفرنجة الصليبيين على القوة
العسكرية؛ من أجل السيطرة على الأرض، وطرد
السكان الأصليين من بلادهم، وتوطين عناصر
أوروبية في مختلف المستوطنات التي قاموا
بتأسيسها في الأراضي المقدسة.
- ظهر من خلال الدراسة نقص العنصر البشري
الأوروبي كعامل هام من عوامل الاستيطان،
وحاجة الفرنجة الصليبيين المستمرة للعنصر
البشري من أجل إنجاح العملية الاستيطانية.
- أوضحت الدراسة مدى إسهام نظام الإقطاع
الأوروبي والمنح والهبات التي قدّمها ملوك
بيت المقدس لرجال الدين اللاتين في كنيسة
القيامة في عملية الاستيطان في القرى
المحيطة ببيت المقدس.
- أشارت الدراسة إلى قيام رجال الدين
اللاتين في كنيسة القيامة بتأسيس
المستوطنات، وإسهام المستوطنين في عملية
التأسيس من خلال إنشاء المنازل والبيوت.
- اهتمام رجال الدين اللاتين بتوفير الأمن
والحماية للمستوطنين من خلال بناء الأسوار
والقلاع والأبراج لحماية المستوطنات،
ولعلّ ذلك يشير إلى أنّ بعض المستوطنات
كانت تؤدّي أغراضاً عسكرية دفاعية، فعلى
سبيل المثال كانت مستوطنة البيرة خطّ
دفاعٍ متقدّم للدفاع عن بيت المقدس ضدّ
أيّ هجومٍ مباغت قد تتعرّض له من ناحية
الشمال.
- أوضحت الدراسة مدى اهتمام رجال الدين
اللاتين في كنيسة القيامة والمستوطنين
بزراعة المحاصيل ذات الجدوى الاقتصادية
مثل محاصيل العنب والزيتون…الخ.
- أشارت الدراسة إلى إسهامات المستوطنين
اللاتين في المجهود الحربي من خلال اشتراك
خمسة وستين مستوطناً من البيرة, إلى جانب
قوات المملكة الفرنجية الصليبية التي
قاتلت السلطان صلاح الدين الأيوبي بالقرب
من غزة.
- أظهرت الدراسة أنّ العلاقة بين رجال
الدين اللاتين في كنيسة القيامة
والمستوطنين كان يحكمها المصالح
المتبادلة.
- بينت الدراسة أنواع الضرائب التي كان
يقدّمها المستوطنون لكنيسة القيامة.
- أكّدت الدراسة على أنّ الوحدة والعمل
الجادّ من قِبَل أصحاب البلاد الأصليين من
أهمّ الأسباب التي أنهت عملية الاستيطان
الفرنجي الصليبي في الأراضي المقدسة.